فصل: تفسير الآيات (34- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (34- 37):

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)}
قوله تعالى: {ولكل أمة أجل} الأجل: الوقت المؤقت لانقضاء وقت المهلة ثم في هذا الأجل المذكور في الآية قولان: أحدهما أنه أجل العذاب والمعنى أن لكل أمة كذبت رسله وقتاً معيناً وأجلاً مسمى أمهلهم الله إلى ذلك الوقت {فإذا جاء أجلهم} يعنيك إذا حلَّ وقت عذابهم {لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} يعني فلا يؤخرون ولا يمهلون قدر ساعة ولا أقل من ساعة وإنما ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الوقت في العرف وهذا حين سألوا نزول العذاب فأخبرهم الله تعالى أن لهم وقتاً إذا جاء ذلك الوقت هو وقت إهلاكهم واستئصالهم فلا يؤخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
والقول الثاني: إن المراد بهذا الأجل هو أجل الحياة والعمر، فإذا انقضى ذلك الأجل وحضر الموت فلا يؤخر ساعة ولا يقدم ساعة وعلى هذا القول يلزم أن يكون لكل واحد أجل لا يقع فيه تقديم ولا تأخير وإنما قال تعالى: لكل أمة تقارب أعمار أهل كل عصر فكأنهم كالواحد في مقدار العمر: وعلى هذا القول أيضاً يكون المقتول ميتاً بأجله خلافاً لمن يقول القاتل قطع عليه أجله.
قوله عز وجل: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} هي إن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء، وهو قوله فمن اتقى وأصلح يعني منكم وإنما قال رسل بلفظ الجمع وإن كان المراد به واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء وهو مرسل إلى كافة الخلق فذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم فعلى هذا يكون الخطاب في قوله يا بني آجم لأهل مكة ومن يلحق بهم. وقيل: أراد جميع الرسل وعلى هذا فالخطاب في قوله يا بني آدم عام في كل بني آدم وإنما قال منكم يعني من جنسكم ومثلكم من بني آدم لأن الرسول إذا كان من جنسهم كان أقطع لعذرهم وأثبت للحجة عليهم لأنهم يعرفونه ويعرفون أحواله فإذا أتاهم بما لا يليق بقدرته أو بقدرة أمثاله علم أن ذلك الذي أتى به معجزة له وحجة على من خالفه {يقصون عليكم آياتي} يعني يقرؤون عليكم كتابي وأدلة أحكامي وشرائعي التي شرعت لعبادي {فمن اتقى} يعني فمن اتقى الشرك ومخالفة رسلي {وأصلح} يعني العمل الذي أمرته به رسلي فعمل بطاعتي وتجنب معصيتي وما نهيته عنه {فلا خوف عليهم} يعني حين يخاف غيرهم يوم القيامة من العذاب {ولا هم يحزنون} يعني على ما فاتهم من دنياهم التي تركوها {والذين كذبوا بآياتنا} يعني ومن جحدوا آياتنا وكذبوا رسلنا {واستكبروا عنها} يعني واستكبروا عن الإيمان بها وما جاءت به رسلنا {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} يعني لا يخرجون منها أبداً.
قوله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} يعني فمن أعظم ظلماً ممن يقول على الله ما لم يقله أو يجعل له شريكاً من خلقه وهو منزه عن الشريك والولد {أو كذب بآياته} يعني أو كذب بالقرآن الذي أنزله على عبد ه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} يعني ينالهم حظهم مما قدر لهم وكتب في اللوح المحفوظ واختلفوا في ذلك النصيب على قولين أحدهما: أن المراد به هو العذاب المعين لهم في الكتاب ثم اختلفوا فيه، فقال الحسن والسدي: ما كتب لهم من العذاب وقضي عليهم من سواد الوجوه ورزقه العيون، وقال ابن عباس: في رواية عنه كتب لمن يفتري على الله كذباً أن وجهه أسود، وقال الزجاج: هو المذكور في قوله فأنذرتكم ناراً تلظى وفي قوله إذ الأغلال في أعناقهم فهذه الأشياء هي نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم.
والقول الثاني: إن المراد بالنصيب المذكور في الكتاب هو شيء سوى العذاب ثم اختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى عنه وعن مجاهد وسعيد بن جبير وعطية، في قوله: {ينالهم نصيبهم من الكتاب} قالوا: هو السعادة والشقاوة، وقال ابن عباس: ما كتب عليهم من الأعمال، وقال في رواية أخرى عنه: من عمل خيراً جوزي به ومن عمل شراً جوزي به. وقال قتادة: جزاء أعمالهم التي عملوها. وقيل معنى ذلك ينالهم نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شر قاله مجاهد والضحاك، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، وقال الربيع بن أنس: ينالهم ما كتب لهم في الكتاب من الرزق، وقال محمد بن كعب القرظي: عمله ورزقه وعمره. وقال ابن زيد: ينالهم نصيبهم من الكتاب من الأعمال والأرزاق والأعمار فإذا فرغ هذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، وصحح الطبري هذا القول الآخر وقال: لأن الله تعالى أتبع ذلك بقوله حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم فأبان أن الذي ينالهم هو ما قدر لهم في الدنيا فإذا فرغ توفتهم رسل ربهم.
قال الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى: إنما حصل الاختلاف لأن لفظ النصيب محتمل لكل الوجوه. وقال بعض المحققين: حمله على العمر والرزق أولى لأنه تعالى بيَّن أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم فإنه ليس بمانع أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلاً من الله سبحانه وتعالى لكي يصلحوا ويتوبوا.
قوله تعالى: {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} يعني حتى إذا جاءت هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب رسلنا يعني ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم عند استكمال أعمارهم وأرزاقهم لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى {قالوا} يعني: قال الرسل وهم الملائكة للكفار {أين ما كنتم تدعون من دون الله} وهذا سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت لا سؤال استعلام والمعنى أين الذين كنتم تعبد ونهم من دون الله ادعوهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم.
وقيل إن هذا يكون في الآخرة والمعنى حتى إذا جاءتهم رسلنا يعني ملائكة العذاب يتوفونهم يعني يستوفون عددهم عند حشرهم إلى النار قالوا أينما كنتم تدعون يعني شركاء وأولياء تعبد ونهم من دون الله فادعوهم ليدفعوا عنكم ما جاءكم من أمر الله {قالوا} يعني الكفار مجيبين للرسل {ضلوا عنا} يعني بطلوا وذهبوا عنا وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} يقول الله تعالى وشهد هؤلاء الكفار عند معاينة العذاب أنهم كانوا جاحدين وحدانية الله واعترفوا على أنفسهم بذلك.

.تفسير الآيات (38- 39):

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
قوله عز وجل: {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس} يقول الله عز وجل يوم القيامة لمن افترى عليه الكذب وجعل له شريكاً من خلقه: ادخلوا في أمم يعني في جملة أمم قد خلت يعني قد مضت وسلفت وإنما قال قد خلت ولم يقل قد خلوا لأنه أطلق الضمير على الجماعة يعني في جملة جماعة قد خلت من قبلكم يعني من الجن والإنس {في النار} أي ادخلوا جميعاً في النار التي هي مستقركم ومأواكم وإنما عنى بالأمم والجماعات والأحزاب وأهل الملل الكافرة من الجن والإنس {كلما دخلت أمة} يعني كلما دخلت جماعة النار {لعنت أختها} يعني كلما دخلت أمة النار لعنت أختها من أهل ملتها في الدين لا في النسب. قال السدي: دخلت أهل ملة النار لعنوا أصحابهم على ذلك الدين فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود والنصارى النصارى والصابئون الصابئين والمجوس المجوس تلعن الآخرة الأولى {حتى إذا اداركوا} يعني تداركوا وتلاحقوا {فيها جميعاً} يعني تلاحقوا واجتمعوا في النار جميعاً وأدرك بعضهم بعضاً واستقروا في النار {قالت أخراهم لأولاهم} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني قال آخر كل أمة لأولها، وقال السدي: قالت أخراهم الذين كانوا في آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين، وقال مقاتل: يعني قال أخراهم دخولاً النار وهم الأتباع لأولاهم دخولاً وهم القادة لأن القادة يدخلون النار أولاً {ربنا هؤلاء أضلونا} يعني: تقول الأتباع ربنا هؤلاء القادة والرؤساء أضلونا عن الهدى وزينوا لنا طاعة الشيطان، وقيل: إنما قال المتأخرون ذلك لأنهم كانوا يعتقدون تعظيم المتقدمين من أسلافهم فسلكوا سبيلهم في الضلالة واتبعوا طريقهم فيما كانوا عليه من الكفر والضلالة فلما كان يوم القيامة وتبين لهم فساد ما كانوا عليه قالوا ربنا هؤلاء أضلونا لأنا اتبعنا سبيلهم {فآتهم عذاباً ضعفاً من النار} أي أضعف عليهم العذاب، قال أبو عبيدة: الضعف هو مثل الشيء مرة واحدة، قال الأزهري والذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاز كلامهم وأما كتاب الله فهو عربي مبين فيرد تفسيره إلى موضع كلام العرب والضعف في كلامهم ما زاد وليس بمقصور على مثلين وجائز في كلام العرب هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله فأقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور وقال الزجاج في تفسير هذه الآية: فآتهم عذاباً ضعفاُ أي مضاعفاً لأن الضعف في كلام العرب على ضربين أحدهما المثل والآخر أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته {قال} يعني قال الله تعالى: {لكل ضعف} يعني لأولاكم ضعف ولآخراكم ضعف وقيل معناه للتابع ضعف وللمتبوع ضعف لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعاً {ولكن لا تعلمون} يعني ما أعد الله لك فريق من العذاب وقرئ بالياء ومعناه ولكن لا يعلم كل فريق ما أعد الله تعالى من العذاب للفريق الآخر {وقالت أولاهم} يعني في الكفر وهم القادة {لأخراهم} يعني الأتباع {فما كان لكم علينا من فضل} يعني قد ضللتم كما ضللنا وكفرتم كما كفرنا وقيل في معنى الآية وقالت كل أمة سلفت في الدنيا لأخراها الذين جاؤوا من بعدهم فسلكوا سبيل من مضى قبلهم فما كان لكم علينا من فضل وقد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله بسبب كفرنا ومعصيتنا إياه وجاءتكم بذلك الرسل والنذر فما رجعتم عن ضلالتكم وكفركم {فذوقوا العذاب} وهذا يحتمل أن يكون من قول القادة للاتباع والأمة الأولى للأخرى التي بعدها ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى يعني يقول الله للجميع فذوقوا العذاب {بما كنتم تكسبون} يعني بسب ما كنتم تكسبون من الكفر والأعمال الخبيثة.

.تفسير الآيات (40- 43):

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
قوله عز وجل: {إن الذين كذبوا بآياتنا} يعني كذبوا بدلائل التوحيد فلم يصدقوا بها ولم يتبعوا رسلنا {واستكبروا عنها} أي وتكبروا عن الإيمان بها والتصديق لها وأنفوا عن اتباعها والانقياد لها والعمل بمقتضاها تكبراً {لا تفتح لهم أبواب السماء} يعني لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم ولا يصعد لهم إلى الله عز وجل في وقت حياتهم قول ولا عمل لأن أرواحهم وأقوالهم وأعمالهم كلها خبيثة وإنما يصعد إلى الله تعالى الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار وتفتح لأرواح المؤمنين. وفي رواية عن ابن عباس أيضاً قال: لا يصعد لهم قول ولا عمل، وقال ابن جريج: لا تفتح أبواب السماء لأعمالهم ولا لأرواحهم. وروى الطبري بسنده عن البراء بن عازب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة قال فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى به في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط» وقيل في معنى الآية: لا تنزل عليهم البركة والخير لأن ذلك لا ينزل إلا من السماء فإذا لم تفتح لهم أبواب السماء فلا ينزل عليهم من البركة والخير والرحمة شيء.
وقوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} والولوج الدخول والجمل معروف وهو الذكر من الإبل وسم الخياط ثقب الإبرة قال الفراء: الخياط والمخيط ما يخاط به والمراد به الإبرة في هذه الآية وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسماً عند العرب قال الشاعر:
جسم الجِمال وأحلام العصافير

وصف من هجاه بهذا بعظم الجسم مع صغر العقل فجسم الجمل من أعظم الأجسام وثقب الإبرة من أضيق المنافذ فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالاً فكذلك دخول الكفار الجنة محال ولما وصف الله دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط وكان وقوع الشرط محالاً ثبت أن الموقوف على المحال محال فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة مأيوس منه قطعاً. وقال بعض أهل المعاني: لما علق الله تعالى دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهو خرق الإبرة كان ذلك نفياً لدخولهم الجنة على التأبيد وذلك لأن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز وهذا كقولك: لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار ومنه قول الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ** وصار القار كاللبن الحليب

قوله تعالى: {وكذلك نجزي المجرمين} أي ومثل الذي وصفنا نجزي المجرمين يعني: الكافرين لأنه تقدم من صفتهم أنهم كذبوا بآيات الله واستكبرواعنها وهذه صفة الكفار فوجب حمل لفظ المجرمين على أنهم الكفار ولما بين الله عز وجل أن الكفار لا يدخلون الجنة أبداً بين أنهم من أهل النار ووصف ما أعد لهم فيها فقال تعالى: {لهم من جهنم مهاد} يعني لهم من نار جهنم فراش وأصل المهاد التمهيد الذي يقعد عليه ويضطجع عليه كالفراش والبساط {ومن فوقهم غواش} جمع غاشية وهي الغطاء كاللحاف ونحوه ومعنى الآية أن الناس محيطة بهم من تحتهم ومن فوقهم، قال محمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي: المهاد الفراش والغواشي اللحف {وكذلك نجزي الظالمين} يعني وكذلك نكافئ ونجازي المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.
قوله عز وجل: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها} لما ذكر الله تعالى وعيد الكافرين وما أعد لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعد لهم في الآخرة فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني والذين والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحي الله إليه وتنزيله عليه من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفساً إلا وسعها يعني لا نكلف نفساً إلا ما يسعها من الأعمال وما يسهل عليها ويدخل في طوقها وقدرتها وما لا حرج فيه عليها ولا ضيق. قال الزجاج: الوسع ما يُقدر عليه، وقال مجاهد: معناه إلا ما افترض عليها يعني الذي افترض عليها من وسعها الذي تقدر عليه ولا تعجز عنه وقد غلط من قال إن الوسع بذل المجهود قال أكثر أصحاب المعاني إن قوله تعالى لا نكلف نفساً إلا وسعها اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} لا نكلف نفساً إلا وسعها وإنما يحسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر لأنه جنس هذا الكلام لأنه تعالى لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم قدرها ومحلها يُتَوصل إليها بالعمل الصالح السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة. وقال قوم من أصحاب المعاني هو من تمام الخبر موضعه رفع والعائد محذوف كأنه قال لا نكلف نفساً منهم إلا وسعها فحذف العائد للعلم به.
قوله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} يعني وقلعنا وأخرجنا ما في صدور المؤمنين من غش وحسد وحقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا ومعنى الآية أزلنا تلك الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إخواناً على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضاً على شيء خص الله به بعضهم دون بعض ومعنى نزع الغل تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ودفعها عن أن ترد على القلب روي عن علي رضي الله عنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين} وروي عنه أيضاً أنه قال إني لأرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} وقيل إن الحسد والغل يزول بدخولهم الجنة.
(خ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يخلص المؤمنون من النار يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن الله لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا» وقال السدي في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحدهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبداً. وقيل إن درجات أهل الجنة متفاوتة في العلو والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض وأخرج الله عز وجل الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب العالية، وأورد على هذا القول كيف يعقل أن الإنسان يرى الدرجات العالية والنعم العظيمة وهو محبوس عنها لا يصل إليها ولا يميل بطبعه إليها ولا يغتم بسبب حرمانه منها وإن كان في لذة ونعيم وأجيب عن هذا بأن الله تعالى قد وعد بإزالة الحقد والحسد من قلوب أهل الجنة حتى تكمل لهم اللذة والسرور حتى إن أحدهم لا يرى نفسه إلا في كمال وزيادة في النعيم الذي هو فيه فيرضى بما هو فيه ولا يحسد أحداً أبداً وبهذا تم نعيمه ولذته وكمل سروره وبهجته.
وقوله تعالى: {تجري من تحتهم الأنهار} لما أخر الله تعالى بما أنعم به على أهل الجنة من إزالة الغل والحسد والحقد من صدورم أخبرنا بما أنعم به عليهم من اللذات والخيرات والمسرات {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا} يعني أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا رحمة منه وإحساناً وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} يعني وما كنا لنرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أنه أرشدنا الله إليه ووفقنا بفضله ومنه وكرمه وفي الآية دليل على أن المهتدي من هداه الله ومن لم يهده الله فليس بمهتد {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} يعني أن أهل النعيم إذا دخلوها ورأوا ما أعد الله لهم فيها من النعيم قالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق يعني أنهم رأوا ما وعدهم به الرسل عياناً {ونودوا أن تلكم الجنة} يعني: ونادى منادي أهل الجنة إن هذه الجنة التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا واختلفوا في المنادى فقيل هو الله عز وجل وقيل الملائكة ينادون بأمر الله عز وجل وقيل هذا النداء يكون في الجنة.
(م) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً فذلك قوله عز وجل: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}» وقوله تعالى: {أورثتموها بما كنتم تعلمون} روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة» زاد في رواية فذلك قوله تعالى: {أورثتموها بما كنتم تعملون} قال بعضهم لما سمى الله الكافر ميتاً بقوله أموات غير أحياء وسمى المؤمن حياً بقوله: {لينذر من كان حياً} وفي الشرع أن الأحياء يرثون الأموات فقال أورثتموها يعني أن المؤمن حي وهو يرث الكافر منزله من الجنة لأنه في حكم الميت. وقيل معناه أن أمرهم يؤول إلى الجنة كما أن الميراث يؤول إلى الوارث، وقيل: أورثتموها عن الأعمال الصالحة التي عملتموها لأن الجنة جعلت لهم جزاء وثواباً على الأعمال ويعارض هذا القول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يدخل الجنة أحد بعمله وإنما يدخلها برحمة الله» فإن دخول الجنة برحمة الله وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال. وقيل إن العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله تعالى وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله تعالى وجعلها الله ثواباً وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا والله أعلم.